معرفة

ولادة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزة

من مولد النبي في غزة هاشم إلى صمود غزة اليوم، لا تنطفئ شعلة الميلاد. كل دمعة شهيد، كل صبر مرابط، هو ميلاد جديد للأمة وتجديد لوعد الله بالاستخلاف والتمكين

future احتفال أهل غزة بالمولد النبوي الشريف 11 ربيع الأول 1446هـ الموافق 14 سبتمبر 2024.

غزة هاشم ومنقبة الولادة المباركة

غزّة المباركة الظاهرة الصابرة المجاهدة، التي عاش فيها ومات ودُفن هاشم بن عبد مناف جدُّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرفت به وسُمِّيت باسمه فقيل «غزّة هاشم»، تشهد هذا العام حدثًا فريدًا عجيبًا مباركًا هو ولادة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وهو الحدث الذي يتكرر للعام الثالث على التوالي، فيا لها من منقبةٍ عظيمةٍ لكم يا سادتنا الغزيّين!

إن ولادة النبي صلى الله عليه وسلم فيها ليست حدثًا عابرًا وقع في الثاني عشر من ربيع الأنور عام الفيل (الثالث والخمسين قبل الهجرة) الموافق العام خمسمائة وسبعين وواحد من الميلاد، لكنه حدث متجدّد بتجدّد الأعوام والأيام والأنسام في هذه الدنيا التي تعطّرت وتنورت وتبخترت بمولده صلى الله عليه وسلم، وجدير بالدنيا وأهلها قاطبةً أن يكونوا أبدًا على ذكرٍ من هذا الحدث الفريد في تجدّده الجديد في تفرده.

غير أن جبلة الإنسان النسيان، فتأتي ذكرى المولد النبوي الشريف في كل عام مذكّرة بما ينبغي ألّا يُنسى، منوّهة بعظيم فضل الله وواسع رحمته التي وسعت كل شيء بإرساله نبيَّه الكريم صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين.

وتأتينا الذكرى هذا العام (السابع والأربعين من المائة الخامسة عشرة) وقد بلغت القلوب الحناجر، وظن بعض الخلق بالله الظنون، فغزّة تُباد أو تكاد، والأمّة على كثرتها عاجزة كأنها غثاء السيل الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم¹، وقد بلغ الوهن من قلوب كثير من المسلمين كل مبلغ، وهذا الوهن الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت هو سبب هذا الحال المؤسف من نزع مهابة أمة الإسلام من قلوب عدوها، وهي الأمة التي نصر الله نبيها صلى الله عليه وسلم بالرعب مسيرة شهر.

وإن لحب الموت والحرص عليه، وإظهار الشجاعة في وجهه وتحدّيه والاستهانة به، لمهابةً تُقذف الرعب في القلوب، وبعد ذلك يحصل الضد؛ إذ لحب الدنيا والحرص على الحياة والإقبال على الشهوات والانهمـاك في الملذّات لذلّةٍ وصَغارٍ يورّثان استهانة الخلق واستخفافهم بصاحب هذا الحال. وقديمًا قالوا: «أذلّ الحرص أعناق الرجال».

وإن هذا الداء العضال والمرض المخوف قد برئ منه مجاهدو غزّة – فيما نرى والله أعلم – أو لعلهم لم يُصابوا به أصلًا، وهذا معنى ولادة النبي صلى الله عليه وسلم هذا العام وسابقيه عندهم كما ذكرت في صدر الكلام.

إن المتأمل لتاريخ أمة الإسلام ليستبدّ به العجب، وهو يراها باقيةً متمدّدة في أقطار الأرض كلها بعد هذا الذي أصابها، وإنه لكثيرٌ ليس بالقليل:

الدَّهْرُ ذو ضرباتٍ ليس يسأمُها *** فقد عجبتُ لهذا الدِّين كم صمدا

المولد النبوي وارتباطه بميلاد الأمة وتجددها

إن بقاء هذه الأمة بعد كل هذا الذي تعرّضت له – على هوله وكثرته –، وإن بلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار²، ووجوده اليوم في كل بلد تطلع عليه الشمس كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، لمعجزة مذهلة وآية باهرة لا أجد لها تفسيرًا وسببًا إلا تجدد الولادة، ومضاء سنة التجديد التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم³.

وهذا التجديد الكبير الذي يكون على رأس المائة ليَثمر تجديداتٍ كثيرة صغيرة في قلوب العباد وأعمالهم يتجدد بها الإيمان وتتجدد شُعَبه، وإنها لكثيرة متنوّعة تبلغ العشرات والعشرات؛ أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.

وإذا كان القائمون على التجديد المئوي الكبير مبعوثين من الله كما جاء في الحديث «إن الله ليبعث» فإن هذا البعث ليس فعلًا إلهيًّا خارجًا عن المأمورات البشرية، ولكنه بعث مأمور به وتجديد مرغوب فيه كما في حديث «ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار»، فإنه خبر تضمّن أمرًا تقديره: «بلّغوا». وكذلك تجديد الإيمان في القلوب فإنّا مأمورون به كما في حديث:

«جدّدوا إيمانكم؛ فوالذي نفسي بيده إن الإيمان ليَخلق – أي: يبلى – في قلب أحدكم كما يخلق الثوب»⁶.

وكذلك حديث «إنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة». فالغَين على قلبه صلى الله عليه وسلم عارضٌ من عوارض البشرية كالنوم والنسيان، ثم يأتي الاستغفار بعد ذلك مجدّدًا للإيمان مزيدًا له. وهذا أحد تفسيرات الحديث. وفي تفسير آخر محتمل أيضًا أن الغين على قلبه صلى الله عليه وسلم غمره وغشيانه بالأنوار الإلهية المقرّبة المعرِّفة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يزل يترقّى أبدًا في معرفته بربه وقربه منه، ثم يكون استغفاره بعد الغين عن حاله قبله؛ إذ هو أنقص رتبة من الحال الآخر – وإن كان كلٌّ منهما كمالًا لم يحزه أحدٌ من البشر غيره صلى الله عليه وسلم – وهذا من معاني قول الله تعالى: {وللآخرة خير لك من الأولى} (الضحى: 4).

ويروى عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي قال: سمعت هذا الحديث فأشكل عليَّ معناه، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لي: «يا مبارك، ذاك غين أنوار، ولا غين أغيار».

بلاء غزة طريق البشارة

نعود إلى غزّة المباركة فنقول: إن ما يحدث في غزّة هو تجديد لإيمان الأمة ودينها، وإنه لولادة جديدة للنبي صلى الله عليه وسلم ولدعوته وسنته ومنهجه وشريعته. وإن في الموت – والله – لحياة، وإن شهداءها – إن شاء الله – أحياء عند ربهم يرزقون، وإن كان كثير من الخلق – أو أكثرهم – بحياتهم لا يشعرون، لكنهم أحياء، وموتهم إحياءٌ للأمة، ورحيلهم إبقاءٌ لها وتجديد. وإن القلب لفراقهم ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون.

ومع ذلك فلا يظنّن ظانٌّ أن ما يحدث شرٌّ لأمتنا: «بل هو خير لها» {ليهلك من هلك عن بيّنةٍ ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ}. وإن للولادة لآلامًا شديدة غير أن الفرح بعدها لكبير. وإن صاحب ذكرى المولد صلى الله عليه وسلم يوم مرّ على ياسرٍ وسمية وعمّار – رضي الله عنهم – وهم يُعذَّبون فتألم لألمهم، وهو الحريص علينا الرحيم بنا، ولم يملك رفع الألم عنهم فقال لهم: «صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة».

كأني به – عليه سلام الله – يمر اليوم على أطفال غزّة وشبابها وشيوخها وأبنائها وبناتها ويقول لهم: «صبرًا آل غزة فإن موعدكم الجنة». وكأني به – بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم – يبتسم ابتسامة المحزون الحكيم الصابر الذي يعلم أن هذه الغمّة معقبةٌ نصرًا وفرجًا وحياةً للدين وأهله في الدنيا والآخرة:

مِن أجله وُضع الأحباب في صَفَدٍ *** وهو الذي جاء يُلقي عنهمُ الصَّفَدا

رآهم النبي صلى الله عليه وسلم في الأصفاد فصبرهم وبشّرهم ووعدهم بكنوز كسرى وقيصر، وأقسم لهم أنها ستُنفق في سبيل الله، وأخبرهم أن يدهم في القيد أكرم وأغلى وأشرف منها في سواري كسرى، وإنها في الحالين لكريمة غالية شريفة. ووعدهم بانتشار الأمن حتى يجلس كذا وكذا من الناس ليس بينهم حديدة – أي لا يحملون سلاحًا – غير أنه قال لهم إن حالهم في الخوف والحديد اليوم خير من حالهم في الأمن والنعيم يومئذ.

وقد جاء القرآن مخبرًا بالبلاء طريقًا للبشارة ووسيلةً إليها:

﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155-157].

وبنصرة غزّة وأهلها فليحتفل من أراد الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يولد الآن فيها وتولد أمته، فلا تبحثوا عنه في مكان آخر.

# معرفة # طوفان الأقصى # حرب غزة # فلسطين # السيرة النبوية

1. عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت»، رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وقال الهيثمي في المجمع إسناد أحمد جيد.
2. عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم: ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلًا يذل به الكفر. قال الألباني: رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححه.
3. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. قال البيروتي في أسنى المطالب: رواه أبو داود وغيره وصححه الحاكم وقال الزين العراقي: سنده صحيح اهـ.
4. عن أبي هريرة ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان. وفي رواية: بضع وسبعون - أو بضع وستون - شعبة، فأفضلها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان. رواه السبعة
5 . عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم. رواه الطبراني في الكبير. وقال الهيثمي في المجمع: إسناده حسن. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جددوا إيمانكم، قيل يا رسول الله: وكيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا الله. رواه أحمد والحاكم والطبراني، وحسنه العجلوني في كشف الخفاء. وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات
6. حديث الأغر المزني رضي الله عنه: «إنه ليُغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» رواه مسلم.
7. يقول المولى سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]. أخرج الطبري وابن كثير وغيرهما في تفسير هذه الآية عن أبي العالية قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بمكة نحوًا من عشر سنين يدعون الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سرًا وهم خائفون، لا يؤمرون بالقتال حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموها فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله أن يصبروا، ثم إن رجلًا من الصحابة قال: يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لن تصبروا إلا يسيرًا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيًا ليست فيه حديدة، وأنـزل الله هذه الآية، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح، ثم إن الله تعالى قبض نبيه - صلى الله عليه وسلم - فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا فيه فأدخل عليهم الخوف فاتخذوا الحجزة والشرط وغيروا فَغُيِّر بهم.
طه حسين يكتب: محمد وخديجة
الشعراوي: من وحي السيرة المحمدية
حديث الذكريات مع حسين مؤنس!

معرفة